الدور الإبداعي للفنان التشكيلي السومري
إن الإبداعات التشكيلية السومرية ، والتي أخذت أماكنها في المتاحف ألوطنيه والعالمية،
ذات أهميه فائقة في الدراسات ألاجتماعيه لتاريخ الفن . ذلك أنها كانت مرتبطة بدرجه كبيرة
بالظروف الاجتماعية . فهنا تضّمَنَ فنون التشكيل، بالنسيح الكلي لبنية الفكر الاجتماعي ،
وتكون له بمثابة الحامل . فأنظمة الأشكال السومرية ، وبنيتها بصفتها اساليب تشكيلية ، وتطورها
، وتحولاتها . تعتمد على هيمنة قوى فكرية اجتماعية، من شأنها أن تحكم مثل هذه الإشكالات،
في حركة الأشكال ومضامينها الفكرية ، باعتبارها فنون أبلاغية ، ذوات قيم أخلاقية عليا ، في
بنية مجتمعها الفكرية .
وكان النشاط الفني عند السومريين ، ينبع من صميم الحياة ذاتها ، باعتباره نشاطاً اجتماعياً ،
تنحصر غايته في الحياة أو الواقع نفسه . ولذلك فأن المنحوتات والرسوم والفخاريات السومرية ،
والتي باتت الآن (حبيسة) صناديقها الزجاجية المتحفية لم تكن وسائل أبلاغ موضوعية حسب ،
بل أنها (تشكلات) لمثل هذه المضامين ، إنها أنظمة أشكال حية ، لها قيم بنائية وجمالية ،
بعدها أشكال بحد ذاته . وأن استيعابها يأتي من قراءة داخلية للنص
، سعياً لكشف مهيمناتها الخارجية . فهي أشكال مهمة وخطيرة في تاريخ فنون التشكيل،
كخطورة أنظمة أشكال بيكاسو أو ماتيس . من شأنها أن تتواصل ،
وتقيم سلسلتها التاريخية مع أنظمة الأشكال الإبداعية في حركتها عبر مراحل تاريخ الفن .
إن المضامين ذوات البنية الدينية ، والتي تحيل (المرئيات) إلى نظم مايثولوجية غير محدودة الدلالة
، وتقولب أشكال الآلهة (غير المرئية) بنظم شكلانية وقوالب مدركة بالبصر والبصيرة .
تتصل بمضامينها الباطنة ، بخصوصية (لا شعورية) ، يجب البحث عنها في منطقة تحت النص
. صحيح إنها تمثل جانباً من الواقع ، ولكن ليس الواقع القائم على التجريب،
الذي تفصح عنه الملاحظة المباشرة . بل هو ذلك الواقع المتخفي ،
إنها تبحث في ما وراء العلاقات العينية ، عن تلك البنية التحتية اللاشعورية ، والتي لا يمكن الوصول إليها ،
إلا بفعل عملية بناء او استنباط لبعض النماذج المجردة .
لهذا كان الإبداع التشكيلي للفنانين السومريين ، تركيباً واعياً، تسيطر عليه ذهنية الفنان المبدع ،
على آليات عمليات التحليل والتركيب لنظم العلاقات في التشكيل مستندة إلى كم وكيف
من المرجعيات المعرفية القائمة على الخبرة التجريبية ، وقد عرف (الفنان)
آليات استقدام أنظمة الصور الكامنة في خزينه الذهني ، ليؤسس منها بنيات تعبيرية .
تتكون من عناصر شكلية تنتظم داخل أنساق خاصة ، يفرض بها (المبدع) على نظم العلاقات تنظيما (شكلانيا)
. وبفعل تفعيل رؤيته الابداعيه ، تحولت الأشكال من أنساق علامية لمدلولات محددة. إلى بنيات نسقيه خاصة ،
تكتسب دلالاتها من علائقها الداخلية كل منها بالأخر . وبنوعٍ من (الخبرة) تنسج الحياة بالفن ،
والتمثيل والتعميم في نسيج واحد . فكان المشهد روحاً (مطهرة) إلا أنها تحمل (أنفاساً) .
وهو عالم لا يمكن أن يكون، لولا وجود (مبدعين) ، اكتشفوا هذه الصور الأبداعية للعالم غير المنظور .
ولعل المثير للجدل هوان (هاوزر) قد أوضح : ” بان الكهنة والحكام هم أول من استخدم الفنانين ،
وظلوا مدة طويلة ينفردون باستخدامهم . وكانت أهم الورش الفنية تقع ضمن القصر أو المعبد،
وفي مثل هذه الورش ، كان الفنانون يعملون أما بوصفهم متطوعين أو بوصفهم موظفين مجبرين .
والجزء الأكبر من المنجزات التشكيلية ، كان مؤلفاً من هدايا نذرت للآلهة ، ونصب تذكارية ،
وتماثيل ملكية للعبادة والتقديس . وكان الكهنة والملوك معاً ، يطلبون من الفنان ،
إتباع مثالية التمثيل … ويشجعونه على أن يظل محافظاً على أساليبه ،
دون القيام بأي تجديد” (هاوزر ، ص45) .
إن الآليات الذهنية واليدوية ، الفاعلة في أبداع المنجزات التشكيلية السومرية،
تتشابه تارة وتختلف اخرى مع عملية بناء (سد) من السدود على أحد الأنهار ،
تتماثل في أبداع (المخطط) وعقد نظام العلاقة بين الشكل والوظيفة . وتتباين جذرياً ،
في إنها تقوم على نوع من (الحدوس) القائمة على الاكتشاف ، أكثر منها جهود جسمانية .
ذلك إن (السوط) والقهر ، لم يكن يوماً من الأيام سبباُ للإبداع في فنون التشكيل،
فالعملية الإبداعية تقوم على (الخيار) الحر ، وعلى عملية أن تبتكر هذا وترفض ذاك .
وتعتمد على فعل القصد والإرادة الحرة القائمة على التجريب . وعلى فعل الاختلاف أيضاً .
ومقولة الأشكال السومرية ، تؤشر فوراً دور الفنان الإبداعي في مثل هذه التداعيات .
ذلك إن إشكالات أحالة النصوص المكتوبة على الرقم الطينية ، من بنيتها الأدبية المجردة ،
إلى أنظمة صورية من العلائق الشكلية المتبادلة التفاعل ، هو ما يشكل مأثرة الفنان السومري الإبداعية .
وذلك يرتبط بآليات فهم الفكرة قبلياً، وتقديم الحلول لآليات أحالتها إلى منظومات أبلاغية تشكيلية
، كانت في زمانها بمثابة خطابات تداولية متعددة الدلالات بفعل تأويل بنية (الدوال)
إلى ما لا يحصى من الأنظمة العلائقية .
وفي ذات الفعل ، تؤكد أنظمة الأشكال ، في أجناس الفنون التشكيلية السومرية المتنوعة.
إن الفنان قد أبدع تركيبات شكلية ، وتقصى بقصدية بنية الأشكال ، وفقاً للسياقات والمفاهيم ،
وبما يقع في دائرة الأعراف والتقاليد ، ووظائف الأشكال التعبيرية والإيحائية.
متخلياً عما يعرف بالعفوية وصفة (التذكر) في آليات عمل الصورة الذهنية ، نحو نوع من الإرادة الواعية ،
والداعية إلى التحرر من النموذج ، وصولاً إلى البناء الشكلي الرمزي الخالص .
بفعل تفعيل العمليات الذهنية واليدوية الواعية لذاتها ،بغية تحرير الأشكال من واقعيتها ،
مبتغياً الدلالات الروحية فيها . (فالفوتوغرافيا) لم تكن تعني الفنان السومري بشيء، ذلك إن محدوديتها ،
كانت تتعارض مع الآيديولوجيا السومرية اللازمانية واللامكانية .
فقدمت (الأشكال) أبلاغاتها المتعددة والعميقة ، بفعل جهد الفنان المتصف بالتأويل ،
وأوجدت حلولاً مهمة لإشكالات الفكر الإنساني . بغية تشكيل عالم آخر ،
من القيم والمعتقدات لها صفة الثبات والديمومة ، بدلاً من عوالم الظواهر الحياتية المتغيرة .
إن الفعل الإبداعي للفنان في التشكيلات السومرية ، هو تأويل دلالات غير متوقعة ،
ولمسة من الجمال يحققها الفنان ، بالتقارب ألشاعري بين أشياء مألوفة جداً . تنتزع من حالتها التقليدية ،
لتتحول إلى استعارات شكلية . وهي آفاق أبداعية تبدأ بوساطة الإنسان ذاته ،
وتأكيد حقه في أن يتجاوز الطبيعة اعتماداً على مقاييس ومعايير جمالية متجددة .
وبفعل انكماش التعبير في منظومة الأشكال السومرية ، على الحياة الداخلية لذات الفنان المبدع ،
التي تتجاهل العوالم الخارجية (الفيزيقية) .
يبرز نوع من القصدية الواعية والمستندة إلى الخيال والإرادة والوجدان ،
في تحطيم المنظومة الايقونية لأنظمة الصور الشكلية ، بغية التغلغل بما هو انفعالي،
لكشف مشكلات الذات الإنسانية . وهنا يمكن رصد نوع من النزعة العاطفية حلت محل المذهب العقلاني،
ترجح خطاب الذات المنفعلة على حساب الواقع ،
وبذلك النوع من الجدل بين الحسي والحدسي ، لتجاوز معايير الصور المرئية .
انه الفنان السومري (الُمقّدم) على هيئة أبداع خلاق ، يعبر به عن سعادته ألداخليه ،
انه نوع من النزعة الإبداعية غير التسجيلية التي سعت في أنظمة الأشكال .
إلى اختزال الظواهر المرئية ، لتأكيد استقلالية الأشكال الخالصة ، إنها ذات الفنان المبدع ،
تفرض نسقاً على الأشكال ، وتقصي من بنيتها ما هو زائل في رؤية الأشياء متوصلة في ذلك إلى أسلوب ،
يتيح للفنان مزيداً من الحرية ، للإيفاء بحاجاته السايكلوجية ، وتأويل مالا يُحصى من خصوصياته الذاتية .
ذلك أن تعبيرية الفنان السومري ، تقوم على أعادة بناء العالم في حالته السرية الداخلية
. بحيث لم يعد لطبيعة الأشياء من دلالة ، ألا بقدر ما تتحول لتعكس وضعاً إنسانياً .
لقد أزاحت (سومر) استعلاء الفن ، ليشمل كل الجماهير . فقد كانت حركة المجتمع متشابهة ،
وكان الجزء فيها تعبيراً عن الكل . فكان للأعمال الفنية مضامين ودلالات جمعية .
فأصبح لكل المجتمع فرديته الجماعية الخاصة ، فكان للرقص والغناء والطقوس والمراسيم الجماعية ،
غايتها النفعية ، بتحقيق شعور انتماء الفرد للجماعة . وإيجاد حالة من التجانس معها ،
فلم يكن للفرد الواحد ، أي مضمون خاص ، أو ذاتية مشخصة . بل كان شكلاً مهيئاً
لأن يتجسد فيه أي مضمون اجتماعي تجسيداً مباشراً وكلياً .
لقد كرر المجتمع السومري ، فعالياته الاجتماعية مئات المرات وآلافها ،
فوجد بالتدريج وسيلة للتعبير ، يتجسد فيها فعل النشاط الاجتماعي . وقوام هذه الوسيلة
، هو منظومة متنوعة من الأشكال الرمزية . وكان لهذه الرموز أهميه اجتماعية تنظيمية داخل المجموعة ،
فهي تبلغ وتوصل ذات المعنى لكافة أعضاء الجماعة . وسرعان ما وجدت هذه الرموز،
استقرارها في الأعمال الفنية ، باعتبارها ضرورة ملحة في الحياة الاجتماعية السومرية ،
مما أكسبها ترسخاً وثباتاً . وبدأت تتحرك وتتنقل كموروث حضاري عبر الأجيال .
فالفن في سومر، بقدر ما هو أبداع فردي وتفرد ، فأنه كان نشاطاً اجتماعياً جمعياً ،
ساهم بشكل هائل الحيوية ، عند محاولة الإنسان التعبير عن خبراته الانفعالية الجمعية .
التي تصاحب الزراعة والحصاد والحرب والزواج والموت . وكثيراً ما يختلط بالطقوس
الدورية التي تقيمها الجماعة من أجل زيادة الزرع والنسل . فقد كان وسيلة لنقل الأحاسيس
ونقل الفهم أيضاً بين الأفراد .
وتشير الاكتشافات الأثرية ، إلى تشخيص عدد من الأبنية في بعض العواصم السومرية،
على إنها (استوديوهات) فنانين تشكيليين، مزودة ببعض الآلات والعدد اليدوية ،
الضرورية في أنجاز أعمال الفنون التشكيلية . الأمر الذي يشير إلى تشخيص خصوصية
الفنان في مجتمع المدينة السومرية ، وبذات الفاعلية التي يشار بها إلى الحاكم والكاهن .
فللفنان السومري في حركة الفكر الاجتماعي، أهمية روحية خاصة ، ذلك أنه العارف بأسرار الصور السحرية
، خصوصاً وأن مدلول خطاباته الشكلية ، كان موجهاً بعنوان الجماعة نحو المغيب ، نحو المطلق .
إلا أن ما يثير الإعجاب وربما التقدير أيضاً ، هو خلو الإبداعات التشكيلية السومرية
من تأشير أسماء مبدعيها . وتعليل ذلك ، هو امتزاج ذاتية الفنان بذات الجماعة .
فلا يعقل أن يسجل مهندس سومري أسمه على قاعدة (زقورة) ، شاركت في بنائها كل الجماهير ،
رغم كونه قد تفرد بأعداد مخططها . ولا يعقل أيضاً أن يتجاهل الفنان السومري أهمية الاسم السحرية
في الفكر السومري ، فيوقع أسمه على تمثال لملك أو متعبد . ليجتذب فعل أسمه مثل المغناطيس ،
جوهر الطقوس الدينية المقامة للتمثال . والتي لم تكن (فردية) وإنما شغلت كل طموحات أفراد الجماعة .
فنحن هنا لسنا أمام فن من دون فنان، وإنما أمام (صيرورة) اجتماعية ،
عاش فيها الفن والفنان والمجتمع كلاً واحداً .
إن الجهد الفائق الذي بذله الفنان السومري ، والتشجيع والمشاركة الاجتماعية، التي
أبداها جمهور الجماعة تقديراً لأعماله. فأن في ذلك تعبير عن موقف متأصل من التكيف
والتوافق بين الفنان ومجتمعهِ ، لتجسيد قيم وأفكار ، كامنة في صميم الاتجاه البشري النوعي .
ذلك أن الفنون السومرية ، بلغت درجة من الأهمية ، ما جعل استخدامها حقاً من حقوق الجماعة ومصالحها .
ولذلك أمتلك هؤلاء المبدعون الأوائل ، حيزاً اجتماعياً ممتازاً ، وشيئاً من نظرة الاحترام الجماعية .
فكانوا يعدون في الوقت ذاته ، موهوبين بقوة سحرية ، خصوصاً عندما تبلغ أعمالهم الفنية ،
عن أفكار جلب (الخصب) وبركة المحاصيل الزراعية.